التنمية.. رصاصة على الفقر والتخلف

قال تعالى:
"إنَّ لَكَ أَلاّ تَجُوعَ فِيهَا ولا تَعْرَى * وَأنَّكَ لا تَظْمَؤا فِيَها ولا تَضْحَى"
صدق الله العظيم
هكذا كان حال سيدنا آدم في الجنة، ولذلك كانت الجنة جنة. ولذلك أيضا تختلف قوانين الأرض عنها، فعامل الندرة هو ما يجعل هذه الأرض ومن عليها في تفاعل مستمر، وهو ما حفز الإنسان للإعمار وبناء الحضارة.
وعامل الندرة هذا هو ما شكل علم الاقتصاد وتطبيقاته، فهو يبحث عن الاختيار بين البدائل المتاحة. وتتصارع البشرية على العوامل الناضبة في الطبيعة، مثل المزروعات والمعادن وغيرها. فلو كانت جميع الموارد غير ناضبة مثل الشمس وماء البحر لما كانت هناك مشكلة أو حاجة لوجود اقتصاد.
الدول التي فهمت ضرورة الاستفادة من الموارد، وأسست لصناعات أو خدمات تمكنت من بناء اقتصاديات قوية وذلك طبعا في ظل ظروف سياسية واجتماعية مساعدة أدت إلى وجود هذه الدول والأمم في المقدمة وهي دول العالم الأولى. أما الجانب الآخر من العالم فهي تلك الدول التي لم تستطيع بناء اقتصاد فعال وأرغمت أو ارتضت أن تكون دول عالم ثالث تطمح للوصول إلى دول العالم الأول أو على الأقل تنهض من براثن الفقر والتخلف.
إذن فعامل الندرة هو ما يشكل الفقر والغنى، فالجميع يحصلون على قدر متساوي من الموارد الغير ناضبة، ولكن الاختلاف يكون في الموارد الناضبة، والذين يحصلون عليها يكونون في جانب الأغنياء. وهذا يندرج على الأفراد والمجموعات والدول والأمم.
وكانت النظرية القديمة في الاقتصاد تقوم على شمولية النمو، بمعنى أن الغنى هو النتيجة الحتمية للجميع في ظل الانتاج والبيع والتوزيع. ولكن الواقع كان بعيد عن ذلك، فالأغنياء زادوا غنا، والفقراء انتكسوا فقرا. فظهرت الحاجة لوجود قوانين جديدة للتنمية تعمل على تقليص الهوة بين المجتمعين، وتحاول سحب المجتمع الأفقر إلى الأغنى.
وللاقتراب من مفهوم التنمية نلجأ إلى ما أورده الاقتصادي مالكولم جيليس في كتابه التنمية الاقتصادية " Economics of Development "، حيث ضرب مثالا بمزارعين اثنين يزرعان الفول السوداني، أحدهما جون جونستون من جورجيا في الولايات المتحدة الأمريكية، والآخر شيرنو سار من جمهورية السنغال في افريقيا.

في أمريكا يزرع جونستون 54 فدانا من الفول السوداني باستخدام محراث آلي متطور تقنيا، كما يستخدم أساليب حديثة في الزراعة قدمها له مركز البحوث الجامعية الذي تموله الحكومة. كما يستخدم الطائرة لرشد المبيدات الحشرية للمحافظة على جودة المحصول. ويقوم باستخدام أنواع متطورة من السماد المجرب والموثوق.
بعد الحصاد يقوم جونستون ببيع محصوله إلى أحد تاجر الجملة الكثر، والذي يقوم بدوره بتخزين المحصول وبيعه لشركات متخصصة في التسويق والتوزيع. وبذلك يحصل جونستون على سعر أعلى من السعر الدولي للفول السوداني، وذلك لأن حكومة الولايات المتحدة تقوم بالتدخل في تحديد كميات الفول السوداني المستورد، وتضع اشتراطات للمساحة المخصصة لزرع الفول السوداني لكي لا يزيد العرض على الطلب وينخفض السعر. كما تدعم البرامج البحثية والتجارب الزراعية بشكل مستمر، مع العلم أن السوق لا تزال حرة.

في المقابل يقوم المزارع السنغالي شيرنو سار بزراعة المحصول ذاته في مزرعته، ولكنه يستخدم محراثا بدائيا وغير متطور، ولا يمكنه استخدام الأسمدة أوالمبيدات لأنها غير متوفرة وإن توفرت فهو لا يقوى على شرائها. ولذلك تكون النتيجة أن مجمل محصول سار هو خمس محصول جونستون.
لأن سار لا يملك خيارات أخرى يضطر لبيع محصوله للهيئة الحكومية المحتكرة لتصدير الفول السوداني، وتشتريه بثمن بخس لتضمن حصتها. ثم تقوم تلك الهيئة بتخزينه في مخازن بدائية تؤدي إلى تلف جزء من المحصول. كل ذلك يجعل سار وأسرته يعيشون في حالة من الفقر لا يخرجون منها مهما عمل سار واجتهد، فلا كهرباء ولا ماء نظيف ولا نظام تعليمي لأولاده ولا مستشفى يذهبون إليه إن مرضوا.
ولكن المسائلة ليست مسألة فول سوداني لوحده، فالعوامل كلها مترابطة. فللمزارع سار أخوة في العاصمة داكار يعملون في هيئات حكومية ويستلمون رواتب كبيرة ويذهب أبنائهم لمدارس ممتازة ولمستشفيات راقية، وإن كانوا أقلية. ولكن الفول السوداني نفسه الذي يزرعه سار هو من يتكفل بدفع رواتب هذه الأقلية وجعلهم في بحبوحة من العيش.
من الواضح أن النظام السياسي يؤدي إلى تفاوت اقتصادي، فالمزارع الأمريكي جونستون له نائب يمثله في واشنطون العاصمة ويراعي مصالحه كمزارع. ويقوم النواب القادمون من الولايات الزراعية باقتراح القرارات وتمريرها على الحكومة والحصول على الدعم لهذه الشريحة المهمة في المجتمع الأمريكي.
في المقابل سار المسكين لا يمثله أحد ولا يستطيع حتى تمثيل نفسه في العاصمة، على الرغم من أن غالبية المجتمع السنغالي من المزارعين. سار ليست لديه أية طموحات سياسية باستثناء أن يحصل على سعر أفضل لمحصوله ولكن لا يجد لذلك وسيلة.
إن هذه المقارنة ليست مقارنة بين المزارع سار والمزارع جونستون، بل هي مقارنة بين كل مواطن في دول العالم الأول، ومواطن في دول العالم الثالث.
يستعير هذا المثال أيضا الدكتور غازي القصيبي في كتابه: التنمية.. الأسئلة الكبرى، ويخلص القصيبي إلى أن هدف التنمية هي جعل مزارع بسيط مثل سار يحظى بنفس مستوى الدخل والخدمات والرفاهية التي يحصل عليها أخوه في الإنسانية جونستون الأمريكي أو على الأقل يقترب منه. وليس هدف التنمية أن يتحدث سار الإنجليزية بلكنة هوليوود، ولا أن تتحول السنغال إلى ولاية أمريكية. وليس من الضروري أن كل تغيير يعني تنمية، فالتغيير الذي لا يرتكز على الإنسان في كل جوانبه الاقتصادية والسياسية والاجتماعية لا علاقة له بالتنمية.
نعم التنمية طريق صعب، ولكنه ليس بالمستحيل. وقد كانت تطرح نظرية اقتصادية تقول أن التخلف في العالم الثالث طبيعي لأن الجغرافيا هي التي تفرضه، ولا يمكن تغيير الجغرافيا حسب نظرها. فتفترض أن التخلف في آسيا سببه الكثافة السكانية العالية في مقابل الموارد الطبيعية. والتخلف في أفريقيا سببه عدم كفاءة العاملين لاستغلال الثروات. وأما التخلف في أمريكا اللاتينية فيرجع إلى ضعف المؤسسات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
ولكن مهاتير محمد لم يستمع إلى أي من هذه الأصوات المحبطة. بل عمل على إطلاق تنمية اقتصادية وطنية شفافة، اتخذت اجراءات مرة ولكنها كانت ضرورية أدت إلى تقدم ماليزيا ووصولها إلى مرحلة النموذج.
التنمية ممكنة لأن من المستحيل أن يكون الفقر والتخلف هو قدر البشرية.